19‏/02‏/2009

أجهل من دآبه وأضل من الهوام ... الجزء الثاني

نبدأ هذا الجزء من تلخيص بعض الكتب والدراسات عن العلاقة بين الإسلام والعروبة أو القومية العربية والرد على السؤال القديم الحديث عن أن الإسلام جاء ليهدم القومية العربية ليبني مجتمع جديد على أساس ديني بحت لا على أساس قومي وقد وضحنا في الجزء الأول ارتباط الإسلام بالعروبة من واقع القرآن الكريم ، وأن العروبة هي الوعاء للإسلام وأن العروبة هي الأصل وأن الإسلام جاء لينظم المجتمع القومي العربي في شبه الجزيرة العربية وأن الرسالة الإسلامية جاءت من أجل العرب وبلسانهم بل إن التشريع الإسلامي أقر ونظم بعض الأمور التي كانت في العصر الجاهلي ( أي في المجتمع العربي قبل الإسلام ) وضربنا على ذلك أمثله كثيرة ، فضلاً عن الأمور الفكرية التي كانت موجودة في جزيرة العرب حتى تطرق إلى البيئة العربية نفسها وشئون الحياة اليومية العربية وأن الإسلام جاء للعرب خاصة وللبشرية عامة ولم تتحقق عالمية الإسلام إلا إذا تحققت عروبة ، فلا تشريع إلا إذا درس القران الكريم ولا يدرس القران الكريم إلا إذا كان الدارس ملم بل محيط إحاطة كاملة بالغة العربية وقواعدها

والآن أصبح في إمكاننا أن نطرق الجزء الثاني من موضوع العروبة والإسلام والقومية العربية في شبه الجزيرة العربية في عهد الخلفية أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه

نعم إن هذا العهد هو عهد قومية الإسلام أو عروبته ، وهو استمرار لعهد النبوة والرسالة من هذه الناحية ، ولكنه في الوقت ذاته يبرز لنا قضية لا بد من الوقوف عندها من حيث قدرتها على إمدادنا بالمعيار الذي نزن به أقول أولئك الذين يعارضون العروبة باسم الإسلام ، ويدعون إلى إقامة الدولة الإسلامية بدلا من إقامة الدولة القومية ، وتلك القضية هي قضية الدولة الإسلامية

إن عهد أبي بكر رضي الله عنه هو العهد الذي يقدم لنا المفهوم الصحيح عما يمكن أن يسمى بالدولة الإسلامية المفهوم الذي نتخذ منه المعيار الذي نزن به أقول الداعين إلى الدولة الإسلامية ، والضاربين بالدولة العربية عرض الحائط


وأول ما نلفت إليه الذهن في هذا المقام هو أن معنى الدولة ، ومعنى الحكومة ، في أيام أبي بكر ، وفي أيام نزول القرآن الكريم لم تكن هي المعاني المعروفة اليوم من أنها السلطة التي تدير شئون الحياة في المجتمع ، لقد كان معنى الدولة حينذاك الشيء الذي يمكن تداوله ، وكان هذا الشيء في الاستعمال القرآني هو المال مرة ، وهو الأيام مرة أخرى ، فقد قال تعالى : " ليكلا يكون دولة بين الأغنياء منكم " ، وقال عن الأيام : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، وكان معنى كلمة الدولة والحكومة والحكم ، القضاء والفصل بين الناس في الخصومات والمنازعات

والآيات القرآنية التي تشير إلى الحكم بما انزل الله ، والتي وردت حينا في شأن اليهود ، وحيناً في شأن النصارى ، ولم تكن تقصد غير هذا المعنى : الفصل في الخصومات ، جاء في القران الكريم : " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين . وقال : " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ، يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا ، والربانيون والأحبار بما إستحفظوا من كتاب الله ، وكانوا عليه شهداء .. ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون "

وجاء فيه أيضاً : " وليحكم أهل الإنجيل بما انزل الله فيه ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون " ، وجاء فيه خطاباً لمحمد عليه السلام : " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا أتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما انزل الله إليك ... إلى قوله : " افحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون "

إن الحكم في هذه الآيات جميعها إنما يعني الفصل في الخصومات بالعدل والقسطاس المستقيم ، وهذا إنما يحقق عندما يجئ الحكم مستنداً إلى التشريع الذي جاء من عند الله ، ويستوي في ذلك أن يكون هذا التشريع وارداً في التوراة عند اليهود ، أو وارداً في الإنجيل عند المسيحيين ، أو وارداً في القران عند المسلمين فلكل منكم جعلنا شريعة ومنهاجاً ، والكلمة التي وردت في القران الكريم ، ولها معنى السلطة التي تدار بها شئون الحياة في المجتمعات هي كلمة الملك ، ولم يكن أبو بكر رضي الله عنه ملكاً وإنما كان خليفة – خليفة لرسول الله .

وهنا لابد من وقفة نتبين فيها معنى خلافة أبي بكر رضي الله عنه لرسول الله

هو خليفته من حيث أنه إنما يخلفه – أي يحل محله لوفاته صلى الله عليه وسلم – ففي أي شيء قد خلفه لا يمكن أن يكون قد خلفه في الملك من حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ملكاً ، وإنما كان نبياً ورسولا ، ولا يمكن أن يكون قد خلفه في النبوة والرسالة من حيث أن محمداً عليه السلام هو خاتم النبيين وآخر المرسلين بنص القران الكريم ، وهذا إلى جانب أن المولى سبحانه وتعالى هو الذي يختار الأنبياء والمرسلين ، ولكن يقع اختياره على أبي بكر رضي الله عنه ليكون خليفة للرسول عليه السلام



ولا يمكن أن يكون قد خلفه في السلطة التي يدير بها شئون الحياة في المجتمع من حيث أن محمداً عليه السلام إنما يستمد سلطته من الله باعتباره نبياً ورسولا : " من أطاع الرسول فقد أطاع الله " ، " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع ، بإذن الله " ، وأبو بكر رضي الله عنه لم يستمد سلطته من الله وإنما استمدها من الناس في سقيفة بني ساعدة يوم وفاة الرسول عليه السلام ، ولقد طلب البني عليه السلام إلى يؤم الناس في الصلاة وهو في مرض الموت ، ولكن الصحابة لم يتخذوا من ذلك أساساً لاختيار أبي بكر خليفه ، من حيث أن الخلافة لم تسلم لأبي بكر إلا بعد صراع عنيف بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة ، وكادت الفتنة أن تقع بعد امتشاق السيوف لولا حكمة الحكماء


والأمر الذي نؤكد عليه في هذا المقام تلك المقولة التي ترويها كتب التاريخ ، والقائلة في شأن أبي بكر رضي الله عنه لقد رضيه رسول الله لديننا – إشارة إلى إمامته في الصلاة والنبي عليه السلام مريض مرض الموت – أفلا ترضاه لدنيانا

إن هذه المقول إنما تعني اختيار الناس لأبي بكر إنما قام على منحه السلطة التي يدير بها شئون الحياة في المجتمع وهي عندهم وبنص المقول سلطة دنيوية أو بتعبير عصرنا هذا سلطة مدنية

ويؤكد هذا المعنى عندنا ما يلي

أولاً القران الكريم : وقد حارب السلطة الدينية عند أهل الكتاب عندما اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، أي عندما منحوهم سلطة التحليل والتحريم الديني ، وهي في القران الكريم لا تكون إلا لله ، وليس من المعقول أن يحرم القران الكريم السلطة الدينية على أهل الكتاب ويجيزها لغير أهل الكتاب من المسلمين

ثانياً : إن اختيار رئيس السلطة ال
دينية عند أهل الكتاب إنما يتم عن طريق اختيار الكرادلة له ومن إليهم من رجال الدين لهذا الرئيس ، أما في حالة خلافة أبي بكر رضي الله عنه لرسول الله ، فإن شيئاً من ذلك لم يحدث ، والذين اختاروه هم أبناء الأمة العربية الذين حضروا البيعة في السقيفة ، والذين حضروها في مساجد الأمصار وليسوا رجال الدين من أمثال الكرادلة

ثالثاً : ليس هناك نص ديني من كتاب أو سنة يتعلق بكيفية قيام الخلافة ، ولم يحدث أن عين رسول الله أباً بكر ليكون خليفة ، كما فعل أبو بكر فيما بعد حين ، اختار عمر بن الخطاب ليكون خليفته من بعده

أن هذا كله يعني أن شيئاً واحداً هو خلافة أبي بكر لرسول الله كانت خلافة لرسول الله بأمر رسول الله فيما يخص إمامة الناس في الصلاة ، وفي شئون الدين قياساً على الصلاة ، وكانت بيعة من الناس فيما يخص إدارة شئون الحياة في المجتمع ، أي عمليه سياسية مدنية ، وليست دينية ، والأمر الذي أوريد أن أؤكد عليه في هذا المقام أن الله جلت حكمته قد ترك أمر الخلافة للناس ولم يقيدهم في ذلك بقاعدة معنية ، ترك الأمر لهم ليختاروا الشكل الذي يرونه مناسباً لأزمنتهم التي يعيشون فيها ، ولو قيدهم بنص لأصبح هذا القيد دنياً يتبع مهما تمر الأزمة وتختلف الأمكنة

إن نظام الخلافة عربي خالص لم يسبق إليه في الفرس الملكية ، أو في روما الإمبراطورية ، كما لم يكن امتداد للنوبة

إنه نظام دنيوي عربي ما يكون بالنظم الجمهورية الحديثة ، ولولا ما قام به أبو بكر رضي الله عنه من وضع تلك القاعدة التي استغلت فيما بعد أسوأ استغلال وهي حق الخليفة في أن يختار من الناس من يسند إليه الخلافة من بعده





لقد فعل أبو بكر هذا تفادياً لما حدث في سقيفة بني ساعدة يوم وفاة النبي عليه السلام ، ولم يكن النبي قد وقع اختياره على من يخلفه في إدارة شئون الحياة في المجتمع الإسلامي ، كانت أحداث السقيفة ماثلة وحاضرة أمام أبي بكر رضي الله عنه وهو في مرض الموت ، ومخافة أن يحدث هنا ما حدث هناك ، طلباً للاستقرار وتجنب الفتنة اختار أبو بكر عمراً رضي الله عنه ، والذي فعله أبو بكر انه أصلح الموجودين لأن يخلفه ، أما من جاؤوا فيما بعد ، وابتداء بمعاوية بن أبي سفيان ، فكان يختارون أبناءهم ، وانشأوا بذلك حكم الأسرة في الإسلام ، وأحالوا بذلك الخلافة إلى ملك عضوض فيما قال المؤرخين واصفين لتلك الفعلة التي فعلها معاوية ابن أبي سفيان ، خلافة كسروية

فارس عبدالفتاح .... قومي عربي

ليست هناك تعليقات: